رحلة كفاح لشابين كانت مسيرتهما حافلة بمتغيرات مثيرة، عمر واحد، وهمة واحدة، ومسار واحد، جمعتهما الثورة، وفرقتهما الحرب، ثم اجتمعا ثانية باسم الحب، وفي كل مرة لهما بداية جديدة، تشبه السودان، البلد الذي يبحث عن بدايته الجديدة، فهل تكون مثيرة كبداية محمد وعلياء؟
في التاسعة والعشرين من عمرهما يعيش محمد عبيد وعلياء عبدالحميد بالعاصمة المصرية القاهرة، بعد أن فرا من سعير الحرب الدائرة في مدينة الخرطوم، حيث أتما مراسم زواجهما هناك عقب معاناة، وترقب، تلاه سفر مضنٍ، وحرب كادت أن تفرق بينهما، ومن رماد الحرب وآلام المعاناة ولدت “بدايتهما الجديدة” في آب/ أغسطس 2023.
بداية لحياة يصفها محمد بأنها بدأت من اللا شيء، اتخذا قرارها دون أي مؤشرات مستقبلية، شابان أرغمتهما الحرب على الرحيل بحقائب فيها بعض الملابس والأوراق الرسمية، ومعهما كثير من الحب الذي قادهما لاحقًا إلى الاستقرار، وتأسيس حياتهما الجديدة ليبدأ على إثرها المشوار.
فتيل ثورة!
عرفت الشوارع علياء ومحمد في الصفوف الأمامية للثورة السودانية منذ العام 2018، كان محمد ينشط في لجان مقاومة بحري، بينما نشطت علياء في لجان مقاومة كافوري، وكانت تخرج مع أخيها بابكر عبدالحميد الطبيب الذي قُتل وهو يقدم المساعدة الطبية للمتظاهرين في السابع عشر من كانون الثاني/ يناير 2019 في حي بري بمدينة الخرطوم.
يتذكر محمد وعلياء أول لقاء بينهما في موكب احتجاجي متوجه إلى القصر الجمهوري بعد انقلاب الخامس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر 2022، واستيلاء العسكريين على السلطة، ومنذ ذلك اليوم أصبحا رفيقين في المواكب، واشتهرا بقدومهما معًا على دراجة نارية، ومن وسط سحب الغاز المسيل للدموع، وهتافات الثورة، وآمال الشباب باستعادة الحكم المدني ابتدأت قصة حب بين الثائرين، كأنها فتيل ثورة ذاتية لم يحن موعدها بعد.
أيام طويلة
في الرابع عشر من نيسان/ أبريل 2023 وعلى أنغام السلم الخماسي كان محمد وعلياء يستمتعان بليالي الخرطوم الرمضانية في غابة السنط ، على الضفة الشرقية للنيل الأزرق، وفي طريق العودة لم يجدا نقاط القوات الأمنية المعتادة في مدخل الجسر، لم يعيرا ذلك اهتماماً؛ حيث لم يعتقد أحد في مدينة الخرطوم تلك الليلة أن حياته على وشك أن تتبدل للأبد.
في صباح اليوم التالي تصدر خبر احتدام القتال بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع الأنباء، “كانت هذه المرة الأولى التي أيقظني فيها محمد من النوم ومن دون مقدمات أو شرح قال لي:” الحرب قامت”، لم أستطع أن أرد بأي شيء؛ كنا نعتقد أنها ستنتهي في غضون أيام لكنها لم تنتهِ وأصبحت في تصاعد”، تقول علياء.
مع اشتداد القتال اضطر محمد للمغادرة إلى مدينة ودمدني التي تبعد حوالي أربعين كيلومترا عن العاصمة، ورحلت علياء وأسرتها إلى حي آخر أكثر أمانًا من حيهم، بمرارة تحكي عن تلك الأيام: ” كان من الصعب التواصل بالإنترنت أو مكالمات الهاتف، كنت أضطر للتحرك إلى نقطة معينة في ميدان بحي الامتداد، ومع انقطاع التيار الكهربائي لأيام كانت الطريقة الوحيدة لإعادة شحن هواتفنا هي إعطاءها لجارة لنا تعمل في مركز صحي لأنه الوحيد الذي به مولد كهربائي، وكان يتعين علينا الانتظار حتى تعود ليلا”.
بينما يصف محمد تلك الأيام بالطويلة حيث كانت الأخبار منقطعة إلا من استمرار القتال في الخرطوم”.
فقدت علياء إحساسها بالزمن، وباتت الحرب بالنسبة لها تاريخاً جديدًا يُعمل به، أما محمد فقد أصبح رهين هواجس تتملكه عن المستقبل الضبابي له ولأسرته، وكيف يمكن لعلياء أن تغادر الخرطوم بأمان.
نقطة تحول
بعد فترة قصيرة اضطرت أسرة علياء للرحيل إلى مدينة دنقلا شمالي السودان، وحاولت هي وأسرتها الاستقرار هناك لكن التكلفة المالية كانت عالية، في تلك الأثناء كانت تتبادل مع محمد القلق بشأن الحياة في السودان، والخيارات المتاحة، وأين يمكنهما الاستقرار، وهل ينتظران حتى تتوقف الحرب ويعودان إلى الخرطوم أم ينتقلان إلى بلد آخر، وما الذي يمكن فعله مع التوقف شبه التام للحياة؟
يتابعان سرد مجريات ذلك اليوم الذي مثل لهما نقطة تحول، بنبرة حماسية سألها محمد: “بدايات جديدة ولا لا؟ عرس كيف؟”، لتجيبه بتوافق: “ايوا نعرس”.
وافقت علياء، واتجه كل منهما لإخبار أسرته بالقرار الذي استغربه الجميع بسبب الظروف الحاصلة، ودارت أسئلة عدة عن كيفية لم الشمل، وكيف سيعيلان أنفسهما، وأين ستكون مراسم الزواج، وأين ستستقر الأسرة الجديدة، هذه الأسئلة كانت إجابتها في “زغروطة” أطلقتها أم محمد، تداعى لها الجيران؛ باحثين عن سبب احتفال النازحين، كما أسموهم وفقًا لمحمد.
مراسم الفرح
“انتظروا لغاية نرجع الخرطوم، أنا ما عندي بيت أعقد ليكم فيه هنا”، هكذا رد والد علياء الحاج عبدالحميد على طلب الزواج، وأردف: “هم ما متحركين على مصر، نتلاقى هناك”.
بعد فترة قليلة توجهت الأسرتان إلى مصر في يوم واحد؛ رغبة في جمع الطرفين، بالرغم من تخلف محمد عنهم حيث استغرقت إجراءات تأشيرة دخوله لمصر عشرة أيام، ومن اليوم الثاني لوصوله ذهب محمد إلى منزل أسرة علياء، وطلبها للزواج، وفي القاهرة بدأت المراسم.
كان الاحتفال صغيراً وبسيطاً بحضور أسرتيهما وبعض أصدقائهما، بلهجة يغلبها الامتنان، يعبر محمد وعلياء عن لقائهما بعد معركة الانتظار الطويل: “لا وقت أفضل من الآن للبدايات الجديدة، الحرب سيئة لكن عندها وجوه ثانية، بتفتح فرصة لحياة جديدة، وبتخليك ممتن ومقدر لأي شيء صغير بطريقة قوية وبتخليك متصل أكثر بالواقع، تماماً كما نحن الآن”.
وتقدر منظمة الهجرة الدولية أعداد الذين فروا من القتال في السودان منذ اندلاع الحرب في 14 نيسان/ أبريل 2023 داخليا بـ 4.1 مليون شخص، وفر أكثر من مليون شخص إلى دول الجوار مثل مصر وإثيوبيا وتشاد وجنوب السودان وأفريقيا الوسطى.
—