“كنت برفقة صديقاتي اللاتي قدمن لزيارتي؛ من أجل المساهمة معي في نظافة البيت؛ استعداداً للعيد الذي كان على الأبواب، عندما نشبت الحرب في الخرطوم، استعداد صادرته الحرب، لأجد نفسي ضمن عشرات الأطفال الآخرين، نازحون نكاد نفقد ذاكرة الطفولة المنهوبة”.
فترة زمنية قصيرة كانت كفيلة بتغيير مجرى حياة الطفلة عائشة محمود عبد الله؛ ذات الثلاثة عشر ربيعًا التي كانت تتهيأ لاستقبال العيد، إلا أن الحرب أحالتها إلى مكان آخر، لتجد نفسها نازحة ضمن مئات الأطفال بأحد مراكز الإيواء في مدينة كُوسْتِي بولاية النيل الأبيض، جنوبي البلاد، التي خُصصت لآلاف النازحين الفارين من المعارك العسكرية بين الجيش وقوات الدعم السريع بالعاصمة الخرطوم.
مكالمة هاتفية من خالتها، أثناء جلوسها مع صديقاتها، أخبرتها – في عجالة – باندلاع معارك عسكرية في القيادة العامة للجيش، تحكي عائشة تلك اللحظة في جمل قصيرة: أمي لم تكن في المنزل، عندما طلبت خالتي مني العودة وإخبارها الخبر، وصلت وفتحت التلفاز لأتابع ما يحدث، توقعت كالجميع أنها أحداث عابرة وستنتهي، لكننا صدمنا بما جرى؛ لأنه لم يكن مبشرًا.
قرار الرحيل
أسبوعان من المعارك المحتدمة، أصوات الرصاص، وقذائف الدبابات، وتحليق الطائرات الحربية فوق رؤوس سكان حي أمبدة، غربي الخرطوم، بسبب تمركز قوات الدعم السريع في جسر ود البشير القريب من مسكن عائشة وأسرتها، ثلاثة أيام متتالية، وفي اليوم الرابع بدأ القصف الذي كان جزءا منه موجهاً للحي، ليسقط إثر ذلك عدد من القتلى والجرحى.
وضع مأساوي، تطور إلى إرغام الناس على مغادرة منازلهم تحت تهديد السلاح، وسط نهب للعربات والمنازل، كل هذا وأسرة عائشة مصرة على البقاء، لكن مكالمة هاتفية لأختها مع صديقتها التي تقطن على مسافة قريبة من الحي جعلتهم يفكرون في الرحيل.
روت لهم الصديقة أخبار مريعة عن هجوم وقع على منزلها. وكيف أن قوات الدعم السريع عثرت على زي عسكري بين الأغراض المنزلية، تسبب في اعتقال شقيقها وترويع أسرتها.
كان هذا مؤشر لأسرة عائشة لضرورة اتخاذ قرار المغادرة، خاصة بعد سقوط قذيفة دخلت أجزاء من شظاياها إلى المنزل، وسط تحليق مكثف وقريب للطائرات الحربية. “حينها قررنا الرحيل بشكل حاسم والسفر إلى مدينة آمنة”، تقول عائشة.
وفي أغسطس آب الماضي، قالت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونسيف) أنه نزح أكثر من مليوني طفل، بينما ينتشر النزاع الضاري في السودان إلى مناطق جديدة.
إلى المجهول
بدأت الرحلة التي لم تكن في حسبان طفلة كانت تحضر نفسها لاستقبال العيد، لا للخروج من منزلها إلى وجهة مجهولة العواقب عنوانها التشظي؛ فخالتها التي كانت تقيم مع الأسرة اتجهت إلى مدينة دنقلا شمالًا، وغادر خالها إلى مدينة بورتسودان شرقًا، بينما رافقت عائشة أسرتها إلى مدينة كوستي بولاية النيل الأبيض، جنوبي السودان.
قبل المغادرة اتخذت الأسرة قرارًا لحفر حفرة في المنزل وضعت فيها الذهب والمقتنيات المهمة والأوراق الثبوتية كملكية المنزل، وردمها وإخفاء معالمها، بينما جمع الأثاث إلى إحدى الغرف، وأغلقت كل الأبواب باللحام. تحكي عائشة تفاصيل تلك اللحظات بألم: “اكتفينا ببعض الأغراض المهمة، وملابس قليلة، تبادلنا العناق والأمنيات وسط بكاء مرير مع جيراننا الذين لم يتمكنوا من المغادرة، لازمنا حينها شعور سيء؛ كنا في طريقنا إلى المجهول”.
ما مضى ليس كما هو آت؛ فالوقت من أمبدة إلى السوق الشعبي بأم درمان في الأوقات العادية لا يتعدى 25 دقيقة، لكنه اختلف الآن، حيث بدت لهم كأنها أبد من أجل الوصول، وفي الطريق قابلت سيارة عسكرية تابعة للدعم السريع بالقرب من جسر ود البشير، عندها، بدأ نوع جديد من الرعب، لقد شاهدوا جثثا على جانبي الطريق، وعربات متفحمة، كاد الخوف أن ينال منهم، بينما كانت عائشة تتساءل: هل سيستطيعون التمكن من الوصول للسوق الشعبي سالمين؟
بشق الأنفس، استطاعت عائشة وأسرتها الوصول للسوق الشعبي بأم درمان الذي كان وقتها مكتظًا بالنساء والرجال والأطفال؛ كلهم يرغبون في السفر إلى جهات متعددة.
طريق النزوح
في محطة الخروج من أم درمان، قابلت عائشة صديقتها بمعية أسرتها، كانوا ينوون السفر إلى مدينة ود مدني بوسط البلاد، كان لقاءاً مؤثراً بكوا فيه كثيراً وودعوا بعضهن البعض تمنوا ألا يكون لقاؤهن هذا هو الأخير.
ركب الجميع على متن الحافلة، بدا أن سائق العربة على دراية بالواقع على الأرض؛ اختار طريقاً ترابياً غير الذي يسلكه الناس عادة، وهو الطريق الذي يربط مدينة أم درمان بولاية النيل الأبيض من الناحية الغربية لمنطقة جبل أولياء، جنوبي الخرطوم.
واجه ركاب الحافلة سيارات الدعم السريع في أحياء حمد النيل، وجسر ود البشير مرة أخرى وعلى طول منطقة الصالحة التي تقع في الريف الجنوبي لأم درمان، وهو السبب الذي جعل وقود العربة على وشك النفاد.
وصل ركاب الحافلة التي تعج بالنازحين إلى مدينة الدويم غربي ولاية النيل الأبيض في الساعة العاشرة مساء؛ بسبب التوقف المستمر بأمر السيارات العسكرية المنتشرة على طول الطريق.
وبسبب تأخر الوقت تم منع سائق الحافلة من المرور، طُلب من الجميع تمضية بقية الليلة التي كانت ممطرة في مدينة الدويم.
“أمضينا ليلتنا تلك في الشارع، نامت النسوة داخل الحافلة بينما قام الرجال باستئجار أسرّة لتمضية الليلة الممطرة شديدة الظلام”، تقول عائشة.
أعاد السائق ملء خزان الوقود في إحدى محطات البنزين القريبة، وبحلول الساعة العاشرة صباحًا انطلقت الحافلة من جديد في رحلة النزوح، وبحلول الساعة الواحدة ظهراً كانت الحافلة قد وصلت إلى مدينة رَبَك، وفي الساعة الثالثة والنصف وصل الجميع إلى مدينة كوستي.
بحنو بالغ أعد الأقارب لعائشة وأسرتها استقبالاً لطيفا، غسل عن الأجساد جزءاً من آلام الرحلة الشاقة المليئة بالخوف والرعب والرجاء.
مأوى جديد
مع مرور الأيام، واشتداد وتيرة المعارك العسكرية، باتت عائشة وأسرتها يشعرون بالخجل، خاصة وأن منزل الأقارب كان مزدحماً.
اقترحت والدة عائشة البحث عن أحد مراكز الإيواء، وهي مراكز أُعدت بواسطة المجهود الشعبي وبعض المنظمات المحلية لاستقبال النازحين، وفي أغلبها مدارس أو داخليات لسكن الطالبات والطلاب.
وعلى الرغم من اكتظاظ هذه المراكز، صادف أن إحدى الأسر النازحة تنوي الانتقال إلى منزل مستأجر، وعندها وافقت إدارة المركز على استقبال عائشة وأسرتها.
هناك في مركز الإيواء، تم تقسيم المهام بين الفصول، كل فصل يقوم بالمهام لكل يوم بما في ذلك الطبخ، وإعداد الطعام، وغسل الأواني، إلى أن تم إخبار الجميع بنفاد المواد الغذائية.
ليس من السهل الحياة في مراكز الإيواء؛ فعادة ما تكون هناك مشكلات من بينها عدم توفر دورات المياه بالشكل الذي يتناسب مع أعداد النازحين الكبيرة في كل مركز، إلى جانب عدم نظافتها، فضلاً عن انتشار الحشرات وفي بعض الأحيان الثعابين.
تجربة لم تعتدها عائشة، لكنها تحاول تقبلها وتعمل مع البقية على تجاوزها: “كنا نذهب في بعض المرات إلى المنازل المجاورة، كانت بعض الأسر تدعونا لقضاء بقية اليوم معهم”.
مهام طارئة
في مركز الإيواء، تصحو عائشة لتسهم مع رفيقاتها في نظافة الفناء الداخلي، وبعد أن يتناولن وجبة الإفطار يجلسن تحت ظل الأشجار؛ احتماءً من حر الفصول المدرسية، وازدحامها الشديد؛ ليتجاذبن أطراف الحديث.
كانت عائشة تظن أن رحلة النزوح التي لا تزال تعيشها لن تستمر طويلاً، تعبر عن ذلك بالقول: “كنت أعتقد أننا سنعود لمنزلنا خلال أسبوع فقط، لكنني هنا منذ شهرين، فقدت الأمل في العودة، والأخبار التي تصلنا كلها سيئة”.
تخشى عائشة أن يطول أمد الحرب، بينما يأخذها الحنين إلى منزلها، ولحياتها الطبيعية، وإلى أهلها الذين تفرقت بهم السبل، والرغبة في لقاء صديقاتها اللواتي يصعب عليها حتى التواصل معهن.
وسط صدمة الحرب، وذهول الواقع الجديد، يساورها سؤال تنتظر إجابته رفقة ملايين السودانيين: متى تطوى هذه الصفحة، ويعود السودانيون إلى مدنهم التي فروا منها مكرهين؟
سؤال معلّق، إجابته بالنسبة لعائشة والسودانيين، هي موعد العيد الذي كانت تنتظره ومازالت!
—