في خضم حرب السودان التي دخلت شهرها التاسع، ومخاوف اندلاع أزمات اجتماعية مصاحبة لها يطل سؤال التعايش بين السودانيين ومدى إمكانية أن تلعب الفنون دوراً في لم شتات التباعد، والغضب الجهوي والعرقي الذي يفرزه الصراع المسلح في البلاد يومًا بعد يوم.
وسط أجواء الحرب غير المسبوقة رحل بعيداً عن بلاده وشعبه الفنان والموسيقار محمد الأمين الذي يمتد صداه الفني بطول البلاد وعرضها، بعد أكثر من ستة عقود أمضاها في محراب الفنون والإبداع.
ضريبة النغم
في تشرين الثاني نوفمبر الماضي رحل محمد الأمين، الملقب بالباشاكتب عن عمر يناهز الثمانين عامًا بالولايات المتحدة الأمريكية، بعد “علة لم تمهله طويلًا”، وفق ما أعلنت عائلته، مخلفاً إرثاً فنياً ضخماً، بني على عاطفة قوية وموسيقى استثنائية، وحّدت مشاعر شعبه على صعيدها حباً، ووطناً، وحتى على مستوى ثورات السودان التي لم تتوقف منذ أكثر من مئتي عام في التاريخ الحديث.
جاء محمد الأمين المولود في عام 1943 من مدينة ود مدني إلى العاصمة السودانية الخرطوم في مطلع ستينيات القرن الماضي، وبدأ مسيرته الفنية بفرقة البوليس بحثاً عن فرصة لا تتوافر بالسهل في الغناء عبر إذاعة هنا أم درمان، التي تتطلب إجازة الصوت بادئ ذي بدء.
لم يجد الباشكاتب فرصة الغناء عبر الإذاعة إلا عام 1962 من خلال برنامج (مع الأقاليم) للإعلامي الراحل حسن محمد علي، حيث تعاهد أن يكون من حملة لواء التحديث والتجديد في الفكر الموسيقي بالسودان، ليسير الفنان في صعوده رغم المتاريس وأشواك الطريق التي اعترضت مسيره الغض.
ما هي إلا سنوات قليلة حتى اندلعت ثورة تشرين الأول أكتوبر 1964 التي حملت محمد الأمين إلى عالم الأغنية الوطنية التي أطاحت بنظام الرئيس الفريق إبراهيم عبود العسكري.
في مقابلة تلفزيونية، يقول محمد الأمين، إنه عانى مثل ما عانى السودانيون من نظام 17 نوفمبر 1958، حيث حرم من الغناء في الإذاعة والمسرح، مضيفاً أنه قبيل اندلاع الثورة بنحو ثلاثة أشهر قرر الذهاب إلى مدير الإذاعة السودانية وإبلاغه بأنه سيترك الغناء، إلى أن تأتي حكومة تقدر الفن، لكنه لم يجده.
بعدها عاد إلى مدينته ود مدني وسرعان ما اندلعت الثورة، ومن ثم غنى أغنية أكتوبر 21 كلمات الشاعر الراحل فضل الله محمد.
اكتفى بالوطن
رغم ثوريته، لم يُعرف عن محمد الأمين أي ميول سياسية حزبية، مكتفيًا بالوطن الذي شاده على مدى سبعة عقود موسيقى وغناء، معبراً فيه عن شتى مشاعر شعبه.
لاحقًا، غنى محمد الأمين مع مجموعة من زملائه الملحمة التي كتب كلماتها الشاعر هاشم صديق، إذ كانت لحظة فارقة في مسيرة الغناء الوطني.
يقول الناقد الفني والكاتب الصحفي ياسر عركي: “إنه مثلما كانت ثورة أكتوبر بتفجرها في العام 1964، انطلاقة للشارع السوداني، فإن نشيد (الانطلاقة) بكل تأكيد كان بمثابة (انطلاقة) وصرخة ميلاد للمبتدئ حينها محمد الأمين”.
ويعتقد عركي أن نشيد قصة ثورة أو (الملحمة) للشاعر هاشم صديق من أقوى وأفضل المؤلفات الموسيقية في تاريخ الأغنية السودانية وفق مخيلة لحنية متعددة الكوبليهات ومتنوعة من ناحية اللحن، والأداء، والإيقاع، ومن حيث التسلسل النغمي اللحني، والربط ما بين الكوبليهات، والانتقال من سلم إلى آخر.
ويضيف عركي بوصف للمدينة التي جاء منها الأمين، وكأنه يعيد لها فضل تشكيله: “باختلاف منابع الاستيحاء والإلهام والمعرفة، ظلت مدينة ود مدني منجماً للمبدعين، فأجواؤها تتجه نحو الإبداع، وملهمة وباعثة للجمال؛ فالصوفية وقبابها الخضر، ونارها، وإيقاعها الحار، وتلك القباب الخُضر، وجوها النفسي الباعث للسكينة منحته “بصارة” صنع الإبداع”.
كما تميزت تجربة محمد الأمين ببعد رسالي ونضالي وثوري وهو ما أكسبها عافيتها، وميزها عن كثير من التجارب الغنائية التي دارت جلها في فلك شكوى ونجوى الحبيب، يقول عركي.
ويضيف: “تلك الفترة وما رافقها من قلق سياسي كبير بالسودان وأفريقيا وشعوب العالم الحر، خلفت حركات تحرير وثورات وأثمرت أغنيات وطنية واعية، وكانت تلك الأغنيات تعبيراً عن موقف مبدئي رافض، وإيماناً بقيم التحرر والعدالة والديمقراطية، لذا جرت عليه الكثير من العنت، والاعتقالات، والاضطهاد، وأدخلته في مواجهات عصية مع عصبة الحكم المايوي الذي انتفض عليه الشعب السوداني في ثورة شعبية منتصف ثمانينيات القرن الماضي”.
مجدد مواكب
لم يبتعد محمد الأمين عن تراثه، بل استفاد من الأفكار اللحنية البسيطة التي تؤديها النساء وخاصة (الجدات) في بيوت الأفراح، تحديداً أغنية (العديل والزين) الشعبية والتي يعرفها كل السودانيين.
يتبدى تجديد محمد الأمين كذلك، عندما استفاد من فن الدوبيت في أغنية (حروف اسمك) للشاعر هاشم صديق، إذ تقبلت الأذن السودانية هذا التحديث دون نفور رغم أنها تعودت على سماع الخمس نغمات.
أيضاً مثلت نشأة محمد الأمين في السودان المصغر- ولاية الجزيرة – وتأثره بفنون تلك المنطقة التي جمعت كل أهل السودان وهم محملون بثقافاتهم الغنائية والصوفية المتنوعة، في ربط التماسك والتعايش الاجتماعي بالسودان، ولعل هذه النشأة والتأثير أصبحا يمثلان جوهراً أصيلاً قيماً، ودينامو محركاً في شكل تأليف معظم الألحان التي قدمها الأمين، وتظهر بقوة في شكل ألحانه الوطنية والإيقاعات التي تبث الحماس في الروح، والمتفاعلة مع وجدان المواطن السوداني، نجده كذلك يدخل بعض الأنماط الغنائية الشعبية المنتشرة في السودان مثل أغاني الحماسة، و المناحة، والدوبيت.
محمد الأمين فنان مجدّد، أعاد اكتشاف الإرث النغمي السوداني بإعادة تحميل الفكرة اللحنية الشعبية بخصب جمالي جديد، وتوظيفها في بعض أغنياته المستلهمة من غناء (الدوبيت) الشعبي في أغنية (زورق الألحان) للشاعر الصحفي فضل الله محمد مع توظيف الفكرة اللحنية للأغنية الشعبية التي تقدمها الفتيات في مجالسهن الخاصة (المهيرة عقد الجلاد) في أغنية (مراكب شوق) للراحل محمد حسن دكتور باستدعاء هذه الألحان المنسية وإعادة إنتاجها من جديد.
الموسيقار محمد الأمين يعد أنموذجاً للفنان الذي تغذى بتراثه واستلهم منه ألحانه، وذلك بإدخاله فن الدوبيت الشعبي في بعض مؤلفاته الغنائية، مجسداً بذلك انتماءه الوطني وقربه من جميع مكونات الشعب السوداني الذين أكدوا ذلك عند رحيله، حيث تحول السودان إلى منزل عزاء كبير، رغم صعوبة الظروف التي يمر بها.
ـــــ ــــــــــــ
تم إنتاج هذه القصة من قبل الإعلام في التعاون والانتقال (MICT) وأكاديمية شمال أفريقيا للإعلام (NAMA)، بالتعاون مع مركز الأضواء للخدمات الإعلامية والصحافة، وبتمويل من الوزارة الاتحادية الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ). الآراء الواردة في القصة لا تمثل آراء MICT أو NAMA أو الأضواء أو BMZ.