دفعت ظروف الحرب في السودان الكثيرين للجوء خارج البلاد، حيث اتجه معظمهم للعواصم الإقليمية وشكلوا فيها نسيجاً اجتماعياً سودانياً يعكس واقع ما بعد الحرب، وتجلى هذا الواقع في العديد من مظاهر التجمعات التي ترتبط بأماكن محددة ذات وقع وجداني لدى السودانيين، كالمطاعم التي يلجؤون إليها ليس فقط من أجل تناول الأطعمة بل باعتبارها منتديات يتبادلون فيها همومهم وهموم بلادهم وخلق مساحة للتعايش فيما بينهم.
يستعيد السودانيون في هذه المطاعم والمقاهي جزءًا من ذكرياتهم المصادرة بفعل الحرب الدائرة في بلدهم، ويتجمعون فيها بشكل يومي أو دوري، ويتداعون إليها كأنها تعيدهم إلى مناسباتهم الخاصة بما تحمله من أبعاد مكانية وزمانية على حد سواء.
نيروبي وجلسات الأنس
معظم تلك المطاعم يمتلكها ويديرها سودانيون بعضهم دفعته ظروف الحرب للجوء خارج البلاد، من بينهم محمد الفاتح بشرى الذي يقول بأنه جاء إلى العاصمة الكينية نيروبي في كانون الأول ديسمبر من العام الحالي، وبعد شهرين فكر في افتتاح مطعم سوداني في حي جمهوري، وبالفعل تمكن من تنفيذ فكرته بعد أن اشترى المطعم من أحد أصدقائه من دولة جنوب السودان.
وحول اختياره حي جمهوري تحديداً يقول بشرى: “إن السودانيين يتواجدون بأعداد كبيرة في الحي، وذلك أمر يمكن أن يكون مؤشراً لنجاح المطعم”، إضافة إلى ذلك يرى أن أسعار الخدمات التي يقدمها تكون في متناول الجميع.
أما رواد المطعم يرى بشرى أنهم يشكلون خليطاً متنوعاً من أناس عاديين، وسياسيين، وصحفيين، وبعض من موظفي السفارة السودانية في نيروبي التي لا تبعد كثيراً عن الحي، ويعتقد أن هذا التنوع يساهم في إثراء النقاشات التي تدور حول الوضع في السودان لاسيما بعد الحرب، وهموم وقضايا السودانيين الموجودين في كينيا.
ويشير بشرى إلى أن معظم النقاشات التي تدور بين رواد المطعم تتناول قضايا السودان بشكل عام، لكن بعضهم يتجنب الحديث حول السياسة خاصة السياسيين، ويقول: “السياسيون تحديداً لا يحبذون الحديث عن السياسية، فهم يأتون للأنس بشكل عام، والحديث عن قضايا اجتماعية متنوعة، لكن هناك رواد آخرين يتحدثون حول السياسية”.
أما أكثر شيء حاضر ويعبر عن السودان والتعايش بين أهله، يرى بشرى أن ذلك يتمثل في جلسات الأنس والقهوة السودانية المذاق، والشاي، والمأكولات البلدية كالكِسرة والمفروكة والفول، إضافة للكمونية، والشيّة، حيث أن كل تلك الأشياء تعبر عن مزاج سوداني خالص، حسب تعبيره.
أحاديث سودانية في كمبالا
وفي نموذج آخر للتعايش تنتشر العديد من المطاعم السودانية في العاصمة الأوغندية كمبالا، والتي لجأ إليها السودانيون بصورة أكبر من غيرها من عواصم دول شرق أفريقيا، حتى صار الاستثمار في مجال المطاعم هو الأكثر انتشاراً بين السودانيين هناك.
وفي حي كبالاقالا بالعاصمة الأوغندية يعتبر مطعم وكافيه نوفا بلانكا أحد أكبر أماكن تجمع السودانيين من مختلف الفئات، وربما يعتبر المطعم هو الأشهر من بين جميع المطاعم المنتشرة في ذلك الحي الذي يقطنه العديد من السودانيين.
يقول الصادق سعيد جمعة، وهو صاحب المطعم وقد جاء إلى أوغندا منذ نحو 10 سنوات: “أن المطعم يمثل مجمعاً كبيراً للسودانيين وذلك لانتشارهم في الحي لاسيما في ظل وجود عدد كبير من الفنادق التي ينزل بها السودانيون في بداية وصولهم إلى كمبالا والذين تضاعفت أعدادهم بعد الحرب”.
وبحسب جمعة فإن المطعم تم افتتاحه أواخر العام 2022، أي قبل أشهر من اندلاع الحرب، وبعد أن قدم السودانيون بأعداد كبيرة إلى العاصمة الأوغندية، ويذهب إلى أن المطعم أصبح يمثل مركزاً لنشاط السماسرة الذين يقدّمون خدماتهم للقادمين الجدد الباحثين عن إيجار الشقق وشراء الأثاث وغيرها من الخدمات.
وغير ذلك يرى جمعة أن معظم أحاديث رواد المطعم تدور في معظم المجالات وأن الحديث عن الوضع في السودان بعد الحرب هو المسيطر، بجانب معرفة تفاصيل الحياة في أوغندا والوضع العام في البلد، خصوصاً أن بعض السودانيين يعكسون صورة غير حقيقية عن الحياة في كمبالا والوضع الأمني هنا بالحديث عن معدلات جريمة عالية، وانتشار الأمراض وهذا كله غير صحيح، حسب قوله.
وحول رواد المطعم يقول جمعة: “إنه جمهور كبير ومتنوع، يضم مهندسين، وصحفيين، ونشطاء، ومسؤولين سابقين، ويرجع إلى تواجد السودانيين بأعداد كبيرة في أحياء كبالاقالا وودندقي والذين قدرهم بنحو 70% من السودانيين الموجودين في كمبالا، وأن المطعم يمثل ملتقى لهم جميعا”.
أكثر ما يشغل تفكير رواد المطعم من السودانيين بحسب جمعة هو هم العودة لبلادهم وتمنياتهم بانتهاء الحرب وعودة الحياة لطبيعتها، وأنه يرى هذا الحلم من خلال ما يدور بينهم من أحاديث رغم أن بعضهم يرى أنها قد تكون بعيدة المنال في ظل التطورات التي تدور على الأرض هناك.
القاهرة ملتقى للهواجس
وبعيداً عن شرق أفريقيا نجد أن النسبة الأعلى من اللاجئين السودانيين قد فضلت اللجوء إلى العاصمة المصرية القاهرة تحديداً في الأشهر الأولى من الحرب وذلك لسهولة إجراءات الدخول إلى الأراضي المصرية حينها، ذلك قبل أن تشدد السلطات المصرية في استقبال السودانيين الفارين من الحرب.
على الرغم من التواجد الكبير للسودانيين هناك قبل الحرب إلا أن الواقع الجديد ساهم في مضاعفة أعداد المطاعم والمقاهي السودانية في العاصمة المصرية، يقول محمد عبدالمنعم، وهو من السودانيين الذين لجأوا إلى مصر بعد أقل من شهر على اندلاع الحرب: “إن المطاعم والمقاهي السودانية صارت تمثل لهم متنفساً يتبادلون فيه هموم بلدهم وأنها أصبحت مساحات للتعايش بين الجميع”.
وعن المناطق والأماكن التي يتجمع فيها السودانيون بكثرة، يضيف عبدالمنعم: “تنتشر المقاهي السودانية بصورة أكبر في حي فيصل بمحافظة الجيزة والذي يضم النسبة الأكبر من السودانيين المقيمين في مصر، وحتى أولئك الذين لا يقطنون الحي يأتون من وقت لآخر للالتقاء والأنس مع أصدقائهم ومعارفهم”.
وبحسب عبدالمنعم فإن معظم أحاديث رواد المطاعم والمقاهي السودانية تدور حول الوضع في السودان بعد الحرب، بجانب المشكلات والهواجس التي تواجههم في مصر، لاسيما في ظل تدهور الوضع الاقتصادي والغلاء الذي يشهده البلد الذي لجأوا إليه.
وفي تموز يوليو 2023 أظهرت أرقام سجلتها المنظمة الدولية للهجرة أن 700 ألف شخص لجأوا إلى الدول المجاورة للسودان بالإضافة إلى أكثر من 2.2 مليون شخص نزحوا داخليا.
وتشير الأرقام إلى أن حركة النزوح الأكبر كانت من الخرطوم بنسبة 67 في المائة، ثم دارفور بنسبة 33 في المائة، والولاية الشمالية بنسبة 16 في المائة، تليها ولاية نهر النيل بنسبة 14 في المائة وغرب دارفور بنسبة 7 في المائة من إجمالي النازحين.
ــــــ ــــــــ
تم إنتاج هذه القصة من قبل الإعلام في التعاون والانتقال (MICT) وأكاديمية شمال أفريقيا للإعلام (NAMA)، بالتعاون مع مركز الأضواء للخدمات الإعلامية والصحافة، وبتمويل من الوزارة الاتحادية الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ). الآراء الواردة في القصة لا تمثل آراء MICT أو NAMA أو الأضواء أو BMZ.