عندما تنسد الطرقات أمام العابرين يصبحون مغموسين في الأحزان والهموم، حينما يفقدون الأمل والقدرة على المقاومة يمدون أياديهم بحثاً عمن يمسك بها، إنها صورة مصغرة ولوحة ذات ملامح قاسية تعبر عن أحوال الناس في أوقات الشدة والأزمات، لكنها ليست صورة معممة، فمن بين كل هذه القصاصات التعيسة يلوح الصباح الذي في النفوس، وتطل تلك الوجوه المستبشرة بغدٍ أجمل، مبشّرة بالخير والتفاؤل رغم الوضع الحالك، إنها وجوه المتطوعين والمبادرين لنجدة الملهوفين، وتقديم ما يمكن أن يخفف عن من تقطعت بهم السبل أو أنهكتهم معاناة الحرب، وغيرها من الكوارث الطبيعية وتقلبات الحياة الاجتماعية والاقتصادية.
قيمة متجددة
لم تكن المبادرات الشبابية وليدة اللحظة التي تمر بها السودان، بل هي إرث متوارث منذ زمن بعيد، ويعرف في القرى بالنفير، وهو عمل جماعي يتكاتف فيه الناس لإنجاز عمل ما أو المشاركة في مناسبة ذات بعد اجتماعي، كالزواج أو مساعدة الملهوف، وعند الحصاد ونحو ذلك من المناسبات الاجتماعية التي تحتاج إلى تعاون وتكاتف، والمبادرات في السودان متعددة ومتنوعة منها التعليمية والثقافية والتكافلية، من بينها مبادرة شارع الحوادث في الخرطوم وعدد من الولايات، ومبادرة أطفال السرطان ومبادرات محو الأمية، وكلها ذات طابع تعاوني وقيادة شبابية.
يعرف الشعب السوداني بطبعه كمبادر ومحبذ للمشاركة في الأعمال الجماعية بمختلف مكوناته، اكتسب ذلك من تنوعه الإثني والجغرافي الممتد على الرغم من الصراعات والحروب المتتالية التي خلقت حالة من عدم الاستقرار في عدد من الأقاليم ذات الكثافة السكانية كأقاليم دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، واستفاد في ظلها من عدم وجود مؤسسات وطنية فعّالة ذات اهتمام بالمواطن واحتياجاته، أو حتى توفر فرص التدريب للتعامل مع نتائج وتبعات الهزات الاقتصادية والحروب الداخلية بين مكونات النسيج الاجتماعي.
نفير سوداني
في العادة عندما يكون هنالك نفير بِنَاء في أحد الأحياء، يتجمع الشباب للمساعدة في تشييد غرفة أو سور للمنزل، ويحرصون على أن يصاحب صوت البنّائين الوتر لأجل الطرب تحت أنغام الموسيقى وأجواء المرح لما يعود عليهم بالطاقة الإيجابية وإنجاز المهمة الجماعية، وهو ارتباط وثيق بالإرث الشعبي والثقافي الذي يستحضره الشباب في حياتهم اليومية ومجالات أعمالهم، كما يمكن اعتباره منطلقاً لتأسيس مشاريع مستدامة للمبادرات الشبابية، ومحاكاة واقعية لما يجب أن يكون عليه البلد الموبوء بالصراعات البينية منذ عقود.
في ضوء ذلك يشير نعمان غزالي، الصحفي المهتم بالملفات الاجتماعية والشبابية إلى أن المبادرات الشبابية ظهرت قبل عدة أعوام بصورة أكثر تنظيماً وبأفكار جديدة، ويعيدها غزالي إلى ثقافة النفير التي يعرف بها الشعب السوداني منذ بداياته، وهي واحدة من طرق التكافل المجتمعي.
وحديثاً أنشأ المتطوعون الشباب مبادرة شارع الحوادث، ومبادرة نفير، ومن بعدها المبادرات الثقافية مثل مبادرة مفروش وهي عبارة عن عرض للكتب الثقافية على الهواء الطلق وتوفر لعدد من القراء والمثقفين والمهتمين فرصة الاطلاع على ما يبحثون عنه من كتب وروايات وغيرها.
يتحدث غزالي عن ذلك بلغة الإعجاب والامتنان، إذ يقول: أسهمت هذه المبادرات في تقديم خدمات كثيرة للمجتمع في الجانب الصحي، والإنساني، والثقافي خصوصاً في المجالات التي لا تلقى اهتماماً كبيراً من الدولة مما يتطلب تحويلها إلى مؤسسات مستدامة لتواصل دورها المجتمعي الملموس”.
رهينة الوضع
نجاحات عدة حققتها المبادرات الشبابية إلا أن دوام استمراريتها يبقى رهيناً بالوضع العام في السودان؛ لأن ما يجري يحجّم ويقلل من أدوارها مستقبلاً، وهو يستوجب تأسيساً جيداً مصحوباً بالمتابعة والاهتمام، وفقاً لغزالي.
ليس ببعيد، يرى الدكتور هيثم محمد فتحي، وهو باحث اقتصادي أن تنفيذ مبادرات شبابية حقيقية وفاعلة تتطلب جهوداً جماعية يتشارك فيها الشباب مع المؤسسات التنموية بمختلف تخصصاتها، بما يعزز البيئة الداعمة لضمان نجاح المبادرات الشبابية، ويضيف فتحي: “لابد من تفعيل استراتيجيات وأدوات دعم لهذه المبادرات وتأمين ما يلزم لتعزيز فرصهم في النجاح، لما تشكله من أهمية بالغة، ولابد من إيجاد مساحات لها من خلال المراكز الشبابية، والمؤسسات ذات الصلة بهدف بناء القدرات وإعداد برامج تأهيلية وفقاً لاحتياجات الشباب والمجتمع مع تأمين الدعم لتنفيذ مبادراتهم بطريقة خلاقة ومبتكرة وبما يحقق الغاية منها”.
يملك شباب السودان رؤية إبداعية تواكب خطوات الشعب البناءة نحو التنمية، وذلك من خلال التوعية والعمل المجتمعي الذي يجني ثماره مما يسهم في توفير حياة لائقة وكريمة للمواطن، الكلام هنا للدكتور هيثم الذي وصى بضرورة غرس مبدأ التعود على كل ما هو إيجابي عبر إقامة نشاطات ميدانية أو رقمية تلامس المجتمع وتعزز فيه قيم التنمية المستدامة، وتكون متقاربه مع أفكارهم وهمومهم، وذلك لغرس بذرة حقيقية تظهر نتائجها على الأرض لتحقيق بناء السلام وتعزيز الهوية والتنمية الوطنية.
حواجز وعوائق
بعيداً عن الواقع المعقّد الذي يمر به السودان، تظل المبادرات الشبابية تحت وطأة الإهمال الحكومي حتى في ذروة المؤسسية الحكومية، وهو ما أشعر الشباب بعدم التشجيع حتى عبر برامج تنمية القدرات الإبداعية التي يتمتعون بها.
تماماً كما حدث مع ريان حسن، مسؤولة المكتب التدريبي لمبادرة قوارير، التي يصب عملها في إطار التثقيف والتوعية والعمل على تحسين المؤسسات الحكومية إلا إنها اصطدمت بحواجز كثيرة وكان أحدها هي الحكومة ذاتها، واتهمتها بأنها تقف ضد تقدم المبادرات، مضيفة: “الحكومة تمارس ذات الأساليب بتعطيل عمل المبادرات، والوقوف أمامها خوفاً من أنها تقوم بجهود لا تتواكب مع ما تريده”، والكلام هنا لريان التي تأمل بعد توقف الحرب أن تتحول المبادرات إلى مؤسسات تفيد المجتمع والبلد وتحقق التنمية المستدامة.
وحتى تضع الحرب أوزارها يرى كثيرون بأن المبادرات الشبابية هي الأمل المستقبلي للبلاد في ظل رؤية شبابية همها الوحيد لملمة الشتات، وتطبيب الجراح، وإعادة الأمل.
ـــ ـــــــ
تم إنتاج هذه القصة من قبل الإعلام في التعاون والانتقال (MICT) وأكاديمية شمال أفريقيا للإعلام (NAMA)، بالتعاون مع مركز الأضواء للخدمات الإعلامية والصحافة، وبتمويل من الوزارة الاتحادية الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ). الآراء الواردة في القصة لا تمثل آراء MICT أو NAMA أو الأضواء أو BMZ.