لا منافع في الحرب ولا سراء، كل ما يأتي منها يصنف في خانة الألم والمعاناة، وفي أحسن الأحوال يمكن أن تكون الفائدة الوحيدة هي التجارب النضالية التي تترتب على ما يخوضه المرء خلالها من أجل البقاء، ومهما كانت إلا أنها تبقى مريرة.
كانت أيام قاسية ومخيفة ومازالت، أصبحت صديقة مقربة للخوف والمخاطر الملازمة، وسط صراع دامٍ أفرغ الخرطوم من ساكنيها وشتتهم إلى مدن وولايات أخرى.
في شهر رمضان، كنا كل يوم وقبل سماع أذان المغرب، نسمع صوت الصواريخ والأعيرة النارية التي تضيء سماءنا للنيل منا، ولا تنفعنا أي محاولة للهرب سوى أصوات الهلع المصحوبة بصريخ الأطفال.
نمارس طقوسنا المنزلية وسط قيود قسرية لسنا من نفرضها، بل ما يجري في محيطنا من مواجهات عسكرية مصحوبة بأصوات الطائرات التي تحلق وتشن غارات من وقت إلى آخر، لقد عشنا تفاصيل سيئة للغاية، حتى أننا من أجل ممارسة بعض طقوس الحياة كنا ننتظر توقف الاشتباكات وسكوت أصوات المدافع لنرمم أرواحنا، ونستعيد بعضاً من روح الأماكن التي ألفناها قبل اندلاع الحرب، نسرق بضع دقائق للقيام بذل.
تلازمنا نوبات الذعر باستمرار، وعند الشعور بخطر محدق نحاول اللجوء إلى مخابئ وهمية، في حقيقتها لن تقينا من شيء، لقد عشت أوضاعاً في غاية الصعوبة بمشاهد لا يمكن نسيانها مهما حصل، الأطفال الذين لم يعودوا قادرين على اللعب كالمعتاد، وأمي وابي العاجزين عن فعل أي شيء، سوى الدعاء بأن ينتهي هذا الوضع الذي انفجر دون سابق إنذار.
نزوح وعودة
مع استمرار القتل والموت قررت أسرتي الرحيل من الخرطوم خوفاً على الأطفال وعدم وجود علاج للمرضى، هذا يوم مشؤوم لا أستطيع انتزاعه من ذاكرتي؛ لأننا انقسمنا فجأة، عندما قرر أبي ألا يترك المنزل وقررت البقاء معه، لكنه رفض ذلك، وودعنا بعضنا بالدموع.
تسللنا هرباً إلى أم درمان في رحلة خوف لأسرة غير مكتملة، تتناوب علينا اتصالات الاطمئنان والمتابعة، والحسرة على واقع لا ناقة لنا فيه ولا جمل، وفي كل اللحظات كان التفكير بأبي وصحته هو سيد الموقف، “لستُ بخير” هذا هو عنوان مرحلة وجدتني فيها رغماً عني.
في رحلة النزوح هذه، لم أتوقف عن ذكر أبي وتذكر حاله وكيف يقضي يومه، لكنني ودون مقدمات أخذت أغراضي الشخصية ووقفت أمام أمي وأخبرتها بأني عائدة إلى الخرطوم حيث أبي، وواجهت تبعات ومشقة الطريق من أجل أن أعود إلى الخرطوم، وأكون قريبة من والدي الذي يحتاجني بسبب مرضه.
العودة بمفهومها البسيط ليست كما كنت أتوقع، وصلت الساعة الواحدة ظهراً، في مدخل أم درمان بدا الوضع هادئاً، لكن ما إن دخلنا حتى تبدت الأشلاء والجثث المتفحمة والسيارات المحترقة، بدت الخرطوم مدينة مدمرة، لا مكان للحياة فيها، ولا أملك سوى أن أسأل نفسي عن المكان الذي أنا فيه، ولا إجابة؛ فقد باتت كل الأماكن غريبة!
فقدت جدتي أثناء النزوح، كانت تتمنى لقمة خبز، لكننا لم نكن نستطيع الخروج من المنزل، وعند مغادرتنا فقدت الوعي في الطريق، وفي أقرب مستشفى كان الموت لها بالمرصاد، لقد غادرت وهي تتمنى أن تأكل الخبز الذي بات ضرباً من المستحيل في عدد من أحياء الخرطوم والولايات المشتعلة، وكم من قتلى ولكن دون رصاص!
شعب طيب
السودانيون بطبيعتهم يحبون اللطف، وشعب عاشق لأرضه، فكرة خروجهم نازحين أو لاجئين بعد التهجير القسري جعلتهم يعيشون مرارة الحرمان والترحيل دون أسباب.
نحن الآن في كل مكان، داخل السودان وخارجه، تحت رحمة الشتات، في حنين دائم لمنازلنا ومدننا، علنا نعود ذات يوم إلى ما كنا فيه، نتذاكر أيامنا الخوالي وذكرياتنا الحوالي.
كل ركن من أرض الوطن فيه ذكرى لا تفارقنا كأصوات المصانع، والسيارات، والأغاني والمهرجانات، وصوت النيل، وأشياء لم نعرف قيمتها إلا بعد أن حرمنا منها.
لم تغادر تلك الأماكن وجداننا، مازلنا متعلقين بها، في عمق ذاكرتنا التي اخترقتها الحرب ولم تتمكن منها، هناك الكثير من الأشياء الجميلة والتفاصيل المميزة تستحق أن تبقى على قيد الذكريات، ونصنع بها مستقبلنا الذي تحاول الحرب وأدواتها مصادرته للأبد.
كنا نحلم بأشياء بسيطة لم تتحقق، كنا نحلم بدولة مدنية تضمن لنا حقوقاً أساسية تحفظ بها كرامة الإنسان السوداني، وتتوفر فرص التعليم والصحة وضمان أدنى حد لأسباب المعيشة، وينعم السودان بالأمن والاستقرار، كنا نحلم بهذه وما زلنا، لكن ماذا عن الغد؟ هل ستستمر رحلة العبث بالأرواح والمشاعر؟ أم أنها ستتوقف وسندشن رحلة جديدة عنوانها سودان الغد، دون تمييز أو حسابات ضيقة لها ما بعدها..
ــــ ـــ
تم إنتاج هذه القصة من قبل الإعلام في التعاون والانتقال (MICT) وأكاديمية شمال أفريقيا للإعلام (NAMA)، بالتعاون مع مركز الأضواء للخدمات الإعلامية والصحافة، وبتمويل من الوزارة الاتحادية الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ). الآراء الواردة في القصة لا تمثل آراء MICT أو NAMA أو الأضواء أو BMZ.