“أُجبرت على مغادرة منزلي في 26 نيسان/ أبريل 2023، ولم يكن سبب المغادرة سوى وقوع بعضٍ من القذائف بجوار منزلي، أدى ذلك إلى خلقِ الهلع والخوف في نفوس أطفالي وفي نفسي، ولا أخفي عليكم أني ظننتُ أني على بعد دقائق من نهايتي”، هكذا يوثق المصور الصحفي إبراهيم نقد الله، صاحب 33 عاماً، لحظة الهلع الأولى، التي قادته لاتخاذ قرار الخروج من منزله، وكأنها الصورة الأخيرة في حياته، لكنها كانت الأولى لرحلة باتت أكبر من كونها نزوح.
يحشد إبراهيم مشاعره، ثم ينفجر تعبيرًا عن أسوئها، قائلًا: “أسوأ شُعورٍ يمر على أي فردٍ هو مفارقةِ بيته الذي أسسه وجمع فيه الذكريات؛ فما بالكم أن يغادره مكرهاً ويعود لنقطة – ما تحت الصفر – من غير ملاذ ولا مستقبل معروف، حاملا بحقيبته ما تسنّى له حملُه، ومعه الكثير من الأسى، فاقداً الأمل بمعرفة موعد النهاية بسبب الحرب العبثية التي افتعلوها”.
كمصور، لم يعتد أن يمضي دون التقاط الصور، حتى وإن كان على سفر، لكنه هذه المرة سفر دون وجهة، وبلا موعد وصول أو عودة، غادر إبراهيم منزله في أم درمان معية أسرته، غير أنه لا يسرد لحظة المغادرة، وما تبعها في الطريق، بل يحكي عن أول وجهة وصل إليها، وعما عَلِق في ذاكرته أثناء العبور: “وصلنا إلى ولاية الجزيرة بعد رحلة شاقة، ومتعبة، جسدياً، ونفسياً لا أتمنى حدوثها حتى لأعدائي، والذي زاد الوضع النفسي سوءاً هو أثر المعارك في شرق النيل تحديداً (محطة١٣) فقد تهالك كل شيء، وليس هنالك مدني في الخارج، تماماً كمدينة لا يسكنها سوى الأشباح”.
يستعيد إبراهيم بعض التفاصيل التي يرى أنه من اللازم التوقف عندها، إذ يروي مشهداً نبيلاً يظهر تماسك السودانيين رغم قساوة الظروف: “عند منتصف الطريق وجدنا أهالي القرى يستقبلون الذين فروا من جحيم الحرب بالماء والأكل والشاي، لعل ذلك يروي عطشهم وينسيهم جزءاً من مرارة الطريق”.
لم يجرب الرجل النزوح من قبل، ولم يسبق أن غادر منزله إلا لسفر أو عمل، ولم يكن يعرف مآل الوضع وبأنه سيغادر منزله بملابس النوم، وهي الحالة التي لم تحدث معه سوى في طفولته، عندما كان يخرج للعب بملابس نومه، لكنه يعيد ذلك إلى ما حدث، وخوفه على أطفاله وأسرته، وعدم إدراكه لما سيحدث بعد ذلك، كما يقول.
بعد الوصول لولاية الجزيرة ظل إبراهيم يبحث عن عمل بالرغم من وضعه الجيد، ومدخراته التي ساعدته على تجاوز الكثير من الصعوبات، والمكان الذي يسكن فيه، إضافة إلى من مد له يد العون من أعمامه في خارج السودان، وهذا محل امتنان؛ لأنه أعانه على الوصول إلى ولاية الجزيرة والمكوث فيها بأمان، حسب قوله.
لكنه في المجمل يبقى الإحساس صعبًا؛ فالانتقال قسراً من بيئة لبيئة مختلفة، والبحث عن عمل جديد لمواجهة ظروف الحياة بسبب الحرب من أصعب المواقف التي مرت على إبراهيم الذي يعبر عن ذلك بالقول: “لن أنساها، كصحفي مصور تحول حاله بين ليلة وضحاها بفعل حرب لا علاقة لي بها”.
—