تسعى مبادرة “مسرح الشارع” التي أطلقها المخرج المسرحي ياسر الساعاتي في مدينة الضعين عاصمة ولاية شرق دارفور، التي وصل إليها نازحاً من مدينة نيالا، جراء الحرب بين قوات الجيش والدعم السريع، إلى نشر الوعي بمخاطر الحرب والتحذير من النزاعات، والدعوة للتعايش السلمي بين المجتمعات وذلك من خلال تقديم عروض مسرحية تتناول مواضيعها رفض الحروب وضرورة التعايش بين القبائل في إقليم دارفور.
وجدت المبادرة صدى جماهيرياً لافتاً في دارفور من خلال ما عرضته من أعمال مسرحية تحاكي وقائع الأزمات والنزاعات الشبيهة بالأحداث الدائرة حالياً في السودان، حيث هدفت المبادرة إلى تدريب عدد من الدراميين في الضعين لإنتاج أعمال مسرحية عن التعايش السلمي، ونشر الوعي بما تسببه النزاعات والحروب من مآسي إنسانية وانقسامات قبلية خاصة في دارفور التي يصعب معالجتها سريعاً.
أقوى أسلحة الحرب
تبقى الدراما والأعمال التمثيلية وسيلة ناجعة لتوصيل الرسائل والأفكار المراد توصيلها للجمهور بطريقة غير مباشرة وفعّالة، والمسرح أداة مناسبة لذلك، تفعل ما لم تفعله فنون أخرى، في هذا الصدد يحكي ياسر الساعاتي صاحب مبادرة “مسرح الشارع” عن دوافع اختياره للمسرح للتعبير عن رفضه لما يجري في البلاد، ولفعل ما يمكنه فعله للمشاركة في إيقاف النزيف، حيث يقول: “بعد أن وصلت إلى مدينة الضعين فكرت في استخدام الدراما لإسماع صوت الأغلبية التي تطالب بوقف الحرب وإحلال السلام وتدعو إلى التعايش، عبر العروض المسرحية التي تعتبر سلاحاً أقوى من المدافع التي هربنا بسببها من مدينة نيالا”.
الساعاتي يرى أن الدراما والموسيقي من أقوى الأسلحة في عالم اليوم، حيث يضيف: “صوتنا الذي لم نستطع أن نوصله في ظل ارتفاع أصوات الرصاص استطعنا أن نسمعه اليوم من خلال المسرح”.
ويسعى الساعاتي من خلال مشروعه الذي أطلقه بالتعاون مع مركز الضعين الثقافي إلى تنظيم ورش عمل للمسرحيين، وقد شرع في ذلك حيث شارك أكثر من ٣٠ درامياً من المدينة في تدريب فني مكثف، وتركز التدريب حول كتابة السيناريو، والتمثيل، والإخراج من أجل التوجه برسائل السلام والتعايش عبر الدراما لإرساء ثقافة نبذ العنف والتطرف في المجتمع الدارفوري الذي ظل يعيش وضعاً كارثياً وتمزقاً قبلياً يهدد الهوية الاجتماعية في السودان، حسب تعبيره.
وعن اختيار المسرح كأداة لنشر الوعي بثقافة السلام، عبر الساعاتي عن اعتقاده بأن “ضرورة رفع صوت رفض الحرب وصعوبة الظروف التي يمر بها السودان، تحتم ضرورة التعايش السلمي بين المجتمع، لأن ثقافة السمع والمشاهدة هي الأداة الوحيدة التي يمكنها مناقشة جميع الرؤى والأفكار القائمة على الساحة السودانية، فضلاً عن قدرتها على تعزيز ثقافة التعايش والسلام”.
محاكاة الواقع
مسرحيات تحاكي واقع السودان وما يعيشه اليوم، وهو ما يؤكده الساعاتي في حديثه عن مسرحيات مبادرته: “نحرص عند الترتيب للعروض المسرحية على اختيار الفكرة والرسالة بشكل سلس وغير مستفز، ولذلك فإن جمهورنا متنوع من حيث الفئات العمرية والمجتمعية، ومن حيث الاستقلالية الحزبية أو من حيث الشخصيات الدينية، لأننا نريد مناقشة قضية”.
ويضيف ساعاتي بتفصيل أكثر عن محتوى مسرحياته قائلاً: “نحن ندرب على عروض مسرحية تناقش نبذ العنف والتطرف، فهناك مسرحيات تدعو للتعايش والسلام وأخرى تعرض نتائج النزاعات المسلحة وتأثيرات الحرب على النساء والأطفال مثل مسرحية “دموع حواء”، وهناك عروض تناقش تأثيرات الحرب الأهلية وما تتركه من شروخ داخل المجتمع، مثل مسرحية “مأساة الحرب” التي عرضت في ساحة مفتوحة في إحدى دور الإيواء للنازحين بالمدينة ووجدت تفاعلاً أبكى جميع الحاضرين، إضافة إلى مسرحيات أخرى تسلط الضوء على دور النساء في السلام وصنعه وتكريسه في المجتمعات.
ويكمن سر نجاح مبادرة “مسرح الشارع”، كما يقول المسرحي عوض سليمان، في فرقة رفاق للفنون وهم من المشاركين في المبادرة وكونها تركز على مناقشة قضايا إنسانية شبيهة بالقضايا الطارئة التي أفرزتها أزمة الحرب، والتي تهم كل السودانيين بمختلف فئاتهم، وعلى رأس هذه القضايا قضية التعايش السلمي، الذي أصبح حلم كل سوداني خاصة بعد الحرب التي طالت كوارثها جميع المواطنين، ولا شك أن المهنية في طرح المواضيع هو ما يميز العروض، من خلال عدم إقحامها في خضم المناكفة السياسية، مما جعل فئات المجتمع تتقبل المبادرة بما في ذلك الإدارة الأهلية، والكلام هنا لسليمان.
استعادة دور المسرح
عرف السودانيون المسرح مطلع القرن العشرين، فقد عرضت أول مسرحية عام 1902، كتبها الكاتب المسرحي عبد القادر مختار، وكانت تعبر عن ثقافة المجتمع السوداني، كما أسهمت في حل قضاياه ومشكلاته، ومن ثم توالت أعمال المسرح من خلال محاولات عديدة، كان من أبرزها مسرحية (عروة وعفراء) كتبها إبراهيم العبادي بالشعر العامي عام 1910، تستمد مادتها من التراث العربي القديم.
ويؤكد المؤرخون في هذا المجال، أن بدايات الحركة المسرحية نبعت من وسط الجمهور، وصنعها جمهور احتفالي ضمن طقوس الزراعة، والحصاد، والأفراح، والأتراح، إلى تتويج الملوك والسلاطين على مر الأزمان من حضارة كوش إلى السلطنة الزرقاء.
ويرى الدرامي السوداني عبد الفتاح أحمد أن المبادرة هي استعادة لدور المسرح الذي غاب سنين طويلة، مضيفاً: “إن الفن عبر الزمن يمضي إلى تصوير العنف بأشكال غير مباشرة، ويساعد في عكس الملاحظات الافتراضية المعاشة في قوالب فنية، تجعل الإنسان يواجه الأزمات الحاصلة في الحياة اليومية بعدة طرق”.
وأضاف عبدالفتاح: “الدراما السودانية لها إسهامات تاريخية بارزة في إيجاد حلول للمشاكل التي يواجهها المواطن السوداني، كما تعمل على تقريب وجهات النظر المختلفة بين المجتمعات المحلية المتصارعة”.
مستقبل التعايش
على مدى الأشهر الماضية، حظيت العروض المسرحية التي تقدمها مبادرة “مسرح الشارع” كل أسبوع في مركز الضعين الثقافي بإقبال جماهيري كبير، رغم ضيق مكان العرض، كما أثارت المبادرة وعروضها المسرحية اهتمامات النازحين وسكان المدينة.
واعتبر الفنان والناقد المسرحي آدم حمودة أن: “المسرح والسينما أساسيان لتطور الشعوب”، وأضاف في حديثه عن المبادرة: “نحن بحاجة لمبادرة “مسرح الشارع” في ظل الوضع المأساوي الذي نعيشه بسبب الحرب، لفتح الأبواب أمام مستقبل التعايش بين أبناء الوطن الواحد”.
وبرأيه حققت المبادرة ما تأسست لأجله، حيث يقيّمها بقوله: “تقييمي لهذه المبادرة هو أنها استطاعت في زمن قصير أن تحقق صدى واسعاً، كما أعادت الحديث عن المسرح إلى الشارع في دارفور التي لا يُذكر اسمها إلا مرتبطاً بمآسي الحروب والوضع الإنساني المتدهور”، وعبر حمودة عن أمله في أن يتم دعم المبادرة والفرق المسرحية من قبل المجتمع المحلي بهدف توسيع قاعة العرض وبناء مسارح تكون بؤرة لنشر ثقافة السلم الاجتماعي والتعايش السلمي ونبذ العنف.
ـــ ــــ
تم إنتاج هذه القصة من قبل الإعلام في التعاون والانتقال (MICT) وأكاديمية شمال أفريقيا للإعلام (NAMA)، بالتعاون مع مركز الأضواء للخدمات الإعلامية والصحافة، وبتمويل من الوزارة الاتحادية الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ). الآراء الواردة في القصة لا تمثل آراء MICT أو NAMA أو الأضواء أو BMZ.