رسالة سامية بطريقة متعددة الأساليب، هكذا يقدم الفن نفسه كأحد الأدوات التي يلجأ إليها الإنسان لإيصال ما يريده لمحيطه والعالم، وتختلف الرسالة وفقاً لطبيعة المحتوى والمستهدفين فمن الغناء والرقص إلى الشعر والرسم ونحو ذلك من الطرق والأساليب التي يخاطب بها من يراد الوصول إليه، وهو ما يعمد السودانيون إلى انتهاجه رغم حساسية الوضع وتعقيداته المتفاقمة منذ ثورة ديسمبر2018 وما تلاها، ووصولاً إلى انفجار الوضع عسكرياً في منتصف نيسان أبريل 2023 حتى الآن.
رسالة ينظر إليها الشباب السوداني بأنها ستؤتي أكلها في هذه المرحلة أو المستقبل القريب، وستساهم في طي صفحة من الصراع، وسترسم مستقبلاً مشرقاً لبلاد عاشت عقوداً من الحرب الأهلية.
نحو سودان جديد، وبرؤية تعتليها الروح الوطنية يلعب الفنانون والمثقفون دوراً أكثر فاعلية في صنع مستقبل بلدهم، ويعملون من أجل الحفاظ على واحدية الشعور الشعبي من خلال جمع كل ألوان الطيف المجتمعي السوداني عبر الأساليب والطرق الفنية المناسبة.
هذا الدور ليس سهلاً، كما يعتقد كثيرون، بل يحتاج إلى دافع مرن يقوده مبدأ وطني واضح الانتماء، بعيداً عن الأفكار العنصرية، وبالعمل على محاربة الظواهر السلبية التي تنخر المجتمع، وتمنح خطاب الكراهية والعنف مساحة قد تؤدي إلى الهلاك الجمعي، وصناعة نتوءات تؤسس لصراعات أكثر دموية وذات مدى زمني أكبر، وهو ما يحتم عليهم محاربة هذه الظواهر عبر كل الوسائل المتاحة لإيصال فكرة أن الفن لا يختلف عن الأدوات النضالية الأخرى في الوصول إلى وطن يحتوي الجميع دون طبقية أو تمييز.
الإحساس بالآخرين
تحمل الفنون في طياتها رسائل يمكن للجميع فهمها، وهو الدافع الذي يقف وراء إيمان زينب صالح آدم شين الفنانة في كورال ملتقى المشيش للفنون والإبداع بمدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور، وترى زينب أن الفن هو الطريقة الوحيدة التي يمكنها الوصول إلى إحساس الناس وتلامس مشاعرهم، وتضيف: “ما لا يستطيعون التعبير عنه يتكفل الفن به، ويقوم بترجمته نيابة عن المتلقي، وهو سلاح معبر عن الجميع”.
وعن الدور الذي يمكن للفن لعبه في مستقبل السودان تملك زينب وجهة نظر خاصة، حيث ترى أن الفن يمكنه أن يساعد في وحدة كيان الشعب السوداني، ويجعلهم في إطار واحد لقبول بعضهم البعض، ويجمعهم ضمن فكرة بناء الوطن، ولتحقيق أهداف السلام والتعايش الاجتماعي، إضافة إلى التعامل في سياق إنساني جامع.
بالعودة إلى إقليم دارفور فإن استخدام الفنون لإيجاد حلول للمشاكل بين المجتمعات المختلفة، وتذويب الفروق القبلية والإثنية، من خلال ابتكار طرق ووسائل تصل إلى مرحلة الذوبان والتلاشي، وهو ما تراه زينب في إطار الممكن بعيداً عن أي حسابات أخرى، مضيفة من وحي تجربتها: “أن الفنون والثقافة في دارفور يمكن أن تلعب دور المصلح بين الأفراد، وتحل المشاكل الموجودة الآن بين المجتمعات خاصة المشاكل القبلية والإثنية المنتشرة، وكذلك تستطيع إيصال رسائل السلام، والتسامح، خصوصاً في مدينة نيالا التي يتجاوز عدد سكانها ثلاثة ملايين نسمة، كثاني أكبر المدن سكانًا في السودان بعد العاصمة الخرطوم”.
يقع على عاتق الفنانين والمثقفين توحيد المجتمعات، وتكوين صورة واحدة تعمل على تشكيل كل السودان، ولن يكون ذلك إلا عن طريق نشر التراث والثقافة الوطنية، والعمل المشترك بين جميع الفنانين بعيداً عن انتماءاتهم القبلية والمناطقية وحتى السياسية، بهذا تناشد زين فناني السودان، وترى أنه بهذا الفهم يمكن توحيد كل السودان، والاستفادة من الفن والفنانين في العمل معاً بعيداً عن الجهود المشتتة.
حضور للمرأة
الدور الإيجابي للفن يصطدم عادة بأدوار سلبية، تعمل على هدم الجوانب الجمعية، وهو ما تتحدث عنه نهلة يوسف المديرة التنفيذية لمنظمة المستقبل، وهي منظمة سودانية شريكة لمنظمة حقوق من أجل السلام، التي تصف تأثير أغاني الحرب التي تغنيها الحكامات بأنها تخلق الكراهية بين المجتمعات المحلية والأفراد، وحتى بين أفراد الأسرة نفسها، وقد تدفع الناس إلى نشوب صراعات بينية.
يجب أن تضطلع المرأة في المجال الفني بدور أكثر فاعلية كأن تستخدم الفن لتعزيز الحماية ونبذ كل ما يؤجج الصراع والكراهية، هذا ما تراه نهلة يوسف، وتضيف: “علينا القيام بما يتفق مع رغبتهم في التخلي عن هذه الأغاني التي تحرض على العنف، وأن تكون النساء رسل سلام لبناء المجتمع”.
دعم التراث
الحاجة الماسة للفنون والثقافة والتراث المادي وغير المادي السوداني تفرضه الضرورة الراهنة بسبب حالة التشظي التي تعيشها البلاد، لكن محاولات الإحياء تواجه تحديات لا تنتهي، ولابد من حلول ممكنة التنفيذ وتواكب المجريات الحالية وهو ما يذهب إليه أسعد عبدالرحمن الأمين العام للمجلس القومي للتراث الثقافي وترقية اللغات القومية الذي قدم عدداً من التوصيات التي تدعم التراث غير المرئي لأداء دوره بفاعلية، وتحقيق أهدافه في ترسيخ الاستقرار والسلام، كبداية لاستكمال مشروع المسح الأثري الشامل لإنجاز الخارطة الأثرية، كما يشدد على ضرورة إكمال مشروع المتاحف المجتمعية لاستخدامها مثل الفضاءات الثقافية، وربطها بالمجتمعات المحلية.
من الأهمية بمكان الترويج بأهمية التراث بشقيه المادي وغير المادي عبر وسائل الإعلام المختلفة من أجل تعريف الجماعات بتراث بعضها البعض لخلق التقارب والتفاعل بينها، علاوة على تخصيص مدة زمنية كافية للتعريف بالتراث الثقافي عبر البرامج في الإذاعة، والتلفزيون لتعزيز القيم الفاضلة التي يشملها التراث في نفوس الناس وترسيخ السلام والوحدة الوطنية، والكلام هنا لأسعد عبدالرحمن.
بلد كالسودان، يملك فنوناً متعددة، وثقافات زاخرة بالتنوع، وإرثاً إنسانياً ضارباً في عمق التاريخ، يمكنه فعل الكثير عبر فنانيه وشعرائه ورساميه وكتابه للوصول إلى تجسيد وطني جامع بعيداً عن الأطراف المتصارعة، وكل أسباب الاستقطاب التي جعلته على حافة الانهيار الشامل.
ـــ ـــــــ
تم إنتاج هذه القصة من قبل الإعلام في التعاون والانتقال (MICT) وأكاديمية شمال أفريقيا للإعلام (NAMA)، بالتعاون مع مركز الأضواء للخدمات الإعلامية والصحافة، وبتمويل من الوزارة الاتحادية الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ). الآراء الواردة في القصة لا تمثل آراء MICT أو NAMA أو الأضواء أو BMZ.